ها أنذا قد لملمت آهاتي، وتمالكت قلمي الذي لا يزال مذهولاً،
لا لفقدك ولكن لفقد هذه الأمة، نعم أمةٌ لا تعرف حق شهدائها عليها أمةٌ مفقودة،
وأمةٌ لا تُحسن وداع رجالها أمةٌ مكلومةٌ بأشد من كلمها بفقدهم، إنها أمة مريضة أو غافلة،
أو قل إنها أمةٌ ميتة أو في سياق النزع، أو سمها ما شئت خلا أمة النصر أو التمكين،
ومتى كان التمكين من نصيب الخائنين المخذلين، متى...
ولست أتكلم بطبيعة الحال عن الأمة الموصوفة بالخيرية والوسط والعدالة،
فتلكم الأمة هي التي كان يعيش فيها ذلك الرجل،
ولست أتكلم عن الأمة المتأسية بقدوة المجاهدين ومعلم الشهداء
فتلكم الأمة هي التي تخرج من مدرستها ذلك الرجل،
إنما أنعي على أمة ترى شخوصها أشباحاً ممسوخة تتردى ما بين الفتنٍ وعبودية المال والشيطان
تنتسب زوراً وبهتاناً لميراث النبوة
في حين أن حالها حال من يبيع هذا الميراث قسطاً قسطاً بعرض من الدنيا رخيص،
ولكن لله در شهيدنا، لو كان يعلم أن هذا هو المأمول من أمتنا لما تكبد عناءاً،
ولما سلك للجهاد طريقاً، وهل هذه أمة تستحق عناء الجهاد والبذل والعطاء...
ما الذي كان يراه رحمه الله في هذه الأمة حتى مضى في الطريق رغم وحشته،
وسلك السبيل غير آبهٍ بكآبة المنظر بادي الرأي؟
وما الذي كان يراه هذا الطود الشامخ وهو يرنو إلى هذه الأمة من عليائه،
وبأي نور كان يتقد مصباحه في ظلمات الجهل والزندقة والعمالة الطاغية على أمتنا هذه،
حتى تحرك في أرجائها ليعيد رسم خرائط الأمة غير آبهٍ بدروس الجغرافيا
التي طبعها أعداؤنا في عقول منظري العمالة والتبعية، وليعيد رسم تضاريس الأرض
لتتسع لكل مجاهدٍ صادقٍ خرج في سبيل الله مخلفاً وراءه الأهل والولد،
وليتأول آيات القرآن غير ملتفتٍ إلى تأويلات أذناب الباطل البائسة
ومناوراته اليائسة لإخفاء بعض قراطيس الوحي وإبداء بعض، ما الذي كان يراه...
كلنا تفطر قلبه لفقدك، وكلنا تقاصرت الألفاظ عن رثائك،
بل كلنا يرى فيك وعد محمدٍ صلى الله عليه وسلم في رباط الطائفة المنصورة،
وكلنا يرى فيك الجماعة ولو كنت وحدك، وذلك أنك نسيجٌ وحدك،
ولكن ليس كلنا يُحسن حمل ميراثك، فميراثك ثقيل، شأنه شأن كل نفيس غالي،
إنه ميراث محمدٍ عليه الصلاة والسلام، أرأيتم لو كان هذا ما رآه فينا شهيدنا الراحل...
في اليوم الذي زغردت فيه السماء لعرس شهادتك،
تبايع على المضي في ساح الجهاد أُسودٌ ما كنا نراهم فكيف رأيتهم من قبل؟
وفي اليوم الذي ترجلت فيه عن صهوة جوادك امتطى صهوة الحق من ورثة النبوة
علماء صدعوا بكلمة الحق رغم غمامات التخذيل، فكيف علمت بهم من قبل؟
وفي اليوم الذي رحل معك طفلك قبل أن يشب عن الطوق ليذود معك عن حياض الأمة
تمخضت أرحام الموحدات عن ألفٍ رجل وألف شهيد، فمتى رأيتهم ومتى علمت بقدومهم؟
لعلك كنت تقرأ قوله تعالى:"من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه
فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً"،
فتفهم من هذه الآية ما لا يفهمه أصحاب الموالد وقراء الجنائز والطاعمون الكاسون
ممن يأخذون أجر قراءتهم في الدنيا، فبئس ما استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير،
لعمري قد قرأت تلك الآية موقناً بأن درب الجهاد لا يخلو من السائرين مهما أوحش،
وأن ركب الأمة الخيار يمضي مهما ارتحل من أهلها إلى دار الآخرة،
وأن ميراث محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ محشوم مخدوم مفدى بالأرواح في كل زمان ومكان،
ولعل هذا الذي كنت تراه فينا...
امضٍ إذاً إلى جناتك وحورك، حلق في حواصل طير خضر، ثم لتأوِ إلى قناديل تحت العرش
لتستريح ساعة ثم تعود تحلق من جديد،ولتعلم أن ما رأيته في هذه الأمة حق رغم قلة الناظرين
وقلة المدركين ولتعلم أن ميراث محمدٍ صلى الله عليه وسلم مفدى بالأرواح والمهج،
وأنا على الدرب ماضون، ولا عليك ألا ينال الجسد ما يليق ما وداع أهل الأرض،
فكرامة اللقاء عند أهل السماء تغنيك عن هذا كله،
فوداعاً أخي في الله، وعذراً إن غص قلمي عند هذا الحد ...